كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهو سبحانه ضرب الأمثال الكثيرة لِيُوضِّح الأمر الخفيّ بأمر جَليّ. ومن بعد ذلك ينتشر المثَل بين الناس. ونقول: إن كلمة ضرب مثلها مثل ضرب العملة، وكان الناس قديمًا يأتون بقطع من الفضة أو الذهب ويُشكِّلونها بقدْر وشَكلْ مُحدّد لِتدُل على قيمة ما، وتصير بذلك عُمْلة متداولة، ويُقَال وشكَلْ- أيضًا- ضُرِب في مصر أي: اعتمد وصار أمرًا واقعًا. وكذلك المثل حين ينتشر ويصبح أمرًا واقعًا.
والمثل الذي يضربه الحق سبحانه هنا هو الكلمة الطيبة؛ ولها أربع خصائص: {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ...} [إبراهيم: 24] أي: تعطيك طِيبًا تستريح له نفسُك؛ إما منظرًا أو رائحة أو ثمارًا؛ أو كُل ذلك مجتمعًا؛ فقوله: {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ..} [إبراهيم: 24].
يُوحي بأن كُلّ الحواس تجد فيها ما يُريحها؛ وكلمة {طيبة} مأخوذة من الطِّيب في جميع وسائل الإحساس.
فالخاصة الأولى، أنها شجرة طيبة، أما الخاصية الثانية فهي أن أصلها ثابت، كإيمان المؤمن المحب، والثالثة أن فروعها في السماء، وهذا دليل أيضًا على ثبات الأصل وطيب منبتها.
أما الخاصية الرابعة فهي أن تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي: فيها عطاء المدد المدد الذي لا يعرف الحد ولا العدد، وهي تدل على صفات المؤمنين المحبين.
وبما أنها شجرة طيبة؛ فهي كائن نباتيّ لابد لها من أن تتغذَّى لتحفظ مُقوِّمات حياتها. ومُقوِّمات حياة النبات توجد في الأرض، فإنْ كانت الشجرة مُخَلْخَلة وغير ثابتة فهي لن تستطيع أن تأخذ غذاءها.
ولذلك يقول الحق سبحانه عن تلك الشجرة: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السماء...} [إبراهيم: 24].
وكلنا نظن أن الشجرة تأخذ غذاءها من الجذور فقط؛ ولكن الحقيقة العلمية تؤكد أن الشجرة تأخذ خمسة بالمائة من غذائها عَبْر الجذور؛ والباقي تأخذه من الهواء، وكلما كان الهواء نظيفًا فالشجرة تنمو بأقصى ما فيها من طاقة حتى تكاد أن تبلغ فروعها السماء.
أما إنْ كانت البيئة غيرَ نظيفة ومُلوّثة؛ فالهواء يكون غيرَ نظيف بما لا يسمح للشجرة أن تنمو المناسب؛ فتمُرُّ الأغيار غير المناسبة على الشجرة، فلا تستخلص منها الغذاء المناسب، ولا تنمو النمو المناسب.
اللهم إلا إذا نزل عليها المطر فيغسل أوراقها.
إذن: فقول الحق سبحانه: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ...} [إبراهيم: 24] يعني: أنها تأخذ من الأرض.
وقوله: {وَفَرْعُهَا فِي السماء..} [إبراهيم: 24].
يُبيِّن أنها تأخذ من أعلى.
ويتابع سبحانه: {تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ...} [إبراهيم: 25].
والأُكُل هو ما يُؤْكل ويُتمتَّع به، ولكنّا لا نأخذ المعنى هنا على ما يُؤْكَل بالفم فقط؛ ذلك أن هناك أشجارًا ونباتات طيبة؛ لأن مزاجَ الكون العام يتطلبها؛ فالظل مثلًا يُستفاد منه؛ وكذلك هناك أشجار يتفاعل وجودها مع الأثير؛ ويأخذ منها رائحة طيبة.
والمثل في ذلك: الطفل البدويّ الذي شاهد نخيل جيرانه مثمرًا بالبلح، ولكن النخلة التي يملكونها غير مثمرة، وتساءل: لماذا؟ وذهب ليقطعها، فلحقه والده ومنعه من ذلك، وقال له: إن نخلتنا هي الذكر الذي يُنتج اللقاح اللازم لبقية النخيل كي تثمر.
ولذلك فأنا لا أوافق المفسرين الذين ذهبوا إلى تفسير قوله الحق: {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ...} [إبراهيم: 24].
بأنها مثل شجرة التفاح وغيرها من الأشجار المثمرة؛ ذلك أن كل شجرة حتى ولو كانت شجرة حَنْظل فهي طيبة بفائدتها التي أودعها الحق إياها؛ فشجرة الحنظل نأخذ منها دواءً- قد يكون مرير الطَّعْم- لكنه يشفي بعضًا من الأمراض بإذن الله.
ذلك أن كل ما هو موصوف بشجرة له مهمة طيّبة في هذا الكون. وقَوْل الحق سبحانه: {تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ...} [إبراهيم: 25].
يدلُّنا على أن هناك قدرًا مشتركًا بين الشجر كله؛ مثمرًا بما نراه من فاكهة أو غير ذلك.
وقد نبهنا العِلْم الحديث إلى أن كل خُضْرة إنما تُنَقِّي الجو بما تأخذ منه من ثاني أوكسيد الكربون، وبما تضيف لنا من أوكسجين؛ وتستمر الخضرة في ذلك نهاراص؛ وتقلب مهمتها بإرسال ثاني أوكسيد الكربون ليلًا وامتصاص الأوكسجين، وكأنها مُبَرْمجة على فَهْم أن النهار يقتضي الحركة.
ويحتاج الكائن الحي فيه إلى المزيد من وقود الحركة وهو الأوكسجين؛ والإنسان أثناء الحركة يستهلك كمية كبيرة من الأوكسجين؛ ونجد مَنْ يصعد سُلّمًا ينهج لأن رئتيه تحاولان امتصاص أكبر قَدْر من الأوكسجين ليؤكسد الدم، وينتج الطاقة اللازمة للصعود. وهكذا نجد كل خُضْرة إنما تقوم بوظائف محددة لها سلفًا من قِبلَ الخالق الأعلى.
ولذلك اختلف العلماء عند تفسير:
{تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ..} [إبراهيم: 25].
فمنهم مَنْ قال: إن الحين يُطلْق على اللحظة؛ مثل قول الحق سبحانه: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 83-84].
وقال مُفسِّر آخر: إن الحين يُقصد به الصباح والمساء، والحق سبحانه هو القائل: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17].
وأقول: فلننتبه إلى أن الحين هو الوقت الذي يحين فيه المقدور؛ فإذا كان الحين هو لحظةَ بلوغ الرُّوح إلى الحُلْقوم؛ فهذه اللحظة هي المراد ب الحين هنا، وإذا كان المقصود بها زمنًا أطول من ذلك؛ صباحًا أو مساء؛ فهذا الزمن ينسحب عليه معنى الحين.
والحق سبحانه هو القائل: {والصابرين فِي البأساء والضراء وَحِينَ البأس...} [البقرة: 177].
والبأس يعني الحرب؛ ومُدة الحرب قد تطول. وكذلك يقول الحق سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} [الأعراف: 24].
وهكذا يكون معنى الحين هنا هو الأجل غير المُسمّى الذي يمتد إلى أن تتبدّل الأرضُ غيرَ الأرض والسماء غير السماء. إذن: فلا يوجد توقيت مُحدد المدة يمكن أن نُحدد به معنى حين.
ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله: {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25].
وضَرْب المثل معناه إيقاع شيء صغير ليدل على شيء كبير؛ أو بشيء جليّ ليدل على شيء خفيّ؛ لِيُقرِّب المعنويات إلى وسائل الإدراكات الأولى، وهي مُدْركات الحِسِّ من سمع وبصر وبقية وسائل الإدراك.
وحين تأتي المعاني التي تناسب الطموح العقلي؛ فالإنسان يتجاوز مرحلة الحِسِّ إلى المعلومات المعنوية؛ فيقربها الحق سبحانه بأن يضرب لنا الأمثال التي توصل لنا المعنى المطلوب إيصاله.
والحق سبحانه لا يستحي- كما قال- أنْ يضربَ مثلًا بالبعوضة وما فوقها. والبعض من المستشرقين يقول: ولماذا لم يَقُلْ وما تحتها؟
ونقول لِمَنْ يقول ذلك: أنت لم تفهم اللغة العربية؛ لذلك لم تستقبل القرآن بالمَلَكة العربية؛ ذلك أن المَثل يُضرَب بالشيء الدقيق؛ وما فوق الدقيق هو الأدقُّ.
والحق سبحانه يضرب لنا المَثل للحياة الدنيا، وهي الحياة التي من لَدُن خَلْق الله للإنسان؛ ذلك أنه كانت هناك أجناسٌ قبل الإنسان، وهو سبحانه هنا يُوضِّح لنا بالمثَل ما يخص الحياة من لحظة خَلْق آدم إلى أنْ تقومَ الساعة، وهو يطويها- تلك الحياة الطويلة العريضة التي تستغرق أعمال أجيالٍ- ويعطيها لنا في صورة مَثَلٍ موجز، فيقول لنا: {واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرياح وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} [الكهف: 45].
وهكذا يطوي الحق سبحانه الحياة كلها في هذا المثل من ماء ينزل ونبات ينمو لينضج ثم تذروه الرياح.
وأيضًا يقول الحق سبحانه: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا..} [الحديد: 20].
وهكذا يطوي الحق سبحانه الحياة الدنيا بطُولها وعَرْضها في هذا المَثل البسيط لنرى ما يُوضِّح لنا المعاني الخفية في صورة مُحسَّة بحيث يستطيع العقل الفطري أن يُدرِك ما يريده الله منها.
ونعلم أن المُحسَّات تدرك أولًا بعض الأشياء؛ ثم ترتقي إلى مرتبة التخيُّل؛ ثم يأتي التوهُّم؛ فمراحل الإدراك للأشياء الخفية هي الحِس أولًا؛ ثم التخيل ثانيًا؛ ثم التوهم ثالثًا.
والتخيُّل هو أن تجمع صورة كلية ليس لها وجود في الخارج؛ وإنْ كانت مُكوَّنة من مادة وأشياء موجودة في هذا الخارج. والمَثل على ذلك هو قول الشاعر الذي أراد أنْ يصف الوَشْم على يد حبيبته، فقال:
خوض كأنَّ بَنانَها ** في نَقْشهِ الوَشْم المُزرد

سَمكٌ من البِلَّور في ** شَبَكٍ تكوَّن من زَبرجَدِ

وحين تبحث في الصورة الكلية لتلك الأبيات من الشعر؛ لن تجدها موجودة في الواقع؛ ولكن الشاعر أوجدها من مُكوِّنات ومُفْردات موجودة في الواقع؛ فالسمك موجود ومعروف؛ والبِلَّور موجود ومعروف؛ وكذلك الشَّبك والزبرجد، وقام الشاعر بنسج تلك الصورة غير الموجودة من أشياء موجودة بالفعل، وهذا هو الخيال الذي يُقرِّب المعنى.
والتوهمُّ يختلف عن الخيال؛ فإذا كان التخيُّل هو تكوين صورة غير موجودة في الواقع من مفردات موجودة في هذا الواقع؛ فالتوهُّم هو صورة غير موجودة في الواقع، ومُكوَّن من مفردات غير موجودة في الواقع.
والحق سبحانه يقول لنا عن الجنة: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين...} [الزخرف: 71].
ويشرح الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بمذكرة تفسيرية، فيقول: «فيها مَا لا عَيْنٌ رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خَطَر على قَلْب بشر».
والعَيْن وسيلة إدراك وحسٍّ؛ وكذلك الأذن، أما ما لا يخطر على القلب فهو ليشرحه الخيال أوَ الوَهْم.
وهكذا نعلم لماذا يضرب الله لنا الأمثال؛ لِيُوجِز لنا ما يشرح ويُوضِّح بأشياء قريبة من الفهم البشري.
وأنت حين تريد أن تكتب لصديق؛ فقد تُمسك الورقة والقلم وتُدبِّج رسالة طويلة؛ ولكن إنْ كنتَ تملك وقتك فستحاول أن تُركِّز كل المعاني في كلمات قليلة.
وكلنا يذكر ما كتبه سعد زغلول زعيم ثورة 1919 المصرية لواحد من أصدقائه بعد أن سطَّر له رسالة في خمس صفحات؛ وأنهاها: إني أعتذر عن الإطالة في الخطاب، فلم يكُنْ عندي وقت للإيجاز وذلك لأن مَنْ يُوجِز إنما يضع معاني كثيرة في كلمات قليلة.
وحين طلب أحد القادة المسلمين النُّصْرة من خالد بن الوليد؛ وكان القائد الذي يطلب المساعدة مُحَاصَرًا؛ وأرسل لخالد بن الوليد كلمتين اثنتين إياك أريد، وهكذا اختصر القائد المحاصر ما يرغب إيصاله إلى مَنْ ينجده، بإيجاز شديد.
والشاعر يقول:
إذَا أرادَ الله نَشْرَ فَضِيلَة ** طُوِيَتْ أتاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُود

لَوْلاَ اشتعالُ النَّار فيمَا جَاورَتْ ** مَا كَان يُعْرَف طيِبُ عَرْفِ العوُدِ

أي: أنه إذا كانت هناك فضيلة مكتومة نسيها الناس؛ فالحقُّ سبحانه يتيح لها لسانَ حاسدٍ حاقد لِيثُرثر ويُنقِّب؛ لتظهر وتنجلي؛ مثلما يُوضَعُ خشب العود- وهو من أَرْقَى ألوان البخور- في النار، فينتشر عِطْره بين الناس.
وهكذا ضرب الشاعر المَثَل لِيُوضِّح أمرًا ما للقارئ أو السامع.
ويقول الشاعر ضاربًا المَثل أيضًا:
وإذَا امْرؤٌ مدحَ امْرءًا لِنَوالِه ** وأَطَالَ فِيه فقدْ أطَالَ هِجَاءَهُ

لَوْ لَمْ يُقدِّر فيه بُعْد المُسْتقَى ** عند الوُرودِ لَمَا أطالَ رِشَاءَهُ

والمقاييس العادية تقول: إن المرء حين يمدح أحدًا لفترة طويلة، فهذا يعني الرِّفْعة والمجد للممدوح. ولكن حين يقرأ أحدٌ قول هذا الشاعر قد يتعجَّب ويندهش، ولكنه يتوقف عند قول الشاعر أن الماء لو كان قريبًا في البئر؛ لأخرجه العطشان بدلو مربوط بحبل قصير؛ ولكن إنْ كان الماء على بُعْد مسافة في البئر فهذا يقتضي حبلًا طويلًا لينزل الدلو إلى الماء.
وهذا يعني أن طول المدح إنما يُعبِّر عن فظاظة الممدوح الذي لا يستجيب إلا بالثناء الطويل؛ ولو كان الممدوح كريمًا حقًا لاكتفى بكلمة أو كلمتين في مدحه.
وهكذا يكون ضَرْبُ المثل توضيحًا وتقريبًا للذهن.
وهنا قال الحق سبحانه: {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25].
والتذكر معناه أن شيئًا كان معلومًا بالفطرة؛ ولكن الغفلة طرأتْ؛ فيأتي المَثَلُ ليُذكِّر بالأمر الفطريّ.
وبعد أن ضرب الحق سبحانه المثل بالكلمة الطيبة بيانًا لحال أهل القُرْب من الله والود معه واتباع منهجه، أراد انْ يذكُرَ لنا المقابل، وهو حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الله، وعن منهجه، فيقول سبحانه وتعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}.
وحين نقارن الكلمة الخبيثة بالكلمة الطيبة سنكتشف الفارق الشاسع؛ فالكلمة الخبيثة مُجْتثَّة من فوق الأرض؛ والجُثَّة كما نعلم هي الجسد الذي خرجتْ منه الروح، ومن بعد أن يصبح جُثة يصير رِمَّة؛ ثم يتحلَّل إلى عناصره الأولى.
إذن: فالاجتثاث هو استئصالُ الشيء من أصله وقَلْعه من جذوره، أما المقابل في الشجرة الطيبة فأصلها ثابت لا تُخلخله ظروف أو أحداث، والكلمة الخبيثة بلا جذور لأنها مُجْتثّة؛ وليس لها قَرار تستقر فيه.
وحين تكلَّم المُفسِّرون عن الشجرة الطيبة منهم مَنْ قال إنها النخلة لأن كُلَّ ما فيها خير؛ فورقها لا يسقط، ويبقى دائمًا كَظِلٍّ وكل ما فيها يُنتفعَ به.
فنحن- على سبيل المثال- نأخذ جذع النخلة ونصنع منه أعمدة في بيوت الرِّيف، وجريد النخل نصنع منه الكراسي؛ والليف الموجود بين الأفرع نأخذه لنصنع منه الحبال؛ والخوص نصنع منه القُفف.
والذين حاولوا أن يُفسِّروا الشجرة الخبيثة بأنها شجرة الحَنْظل، أو شجرة التين، أو شجرة الكُرَّات؛ لكل هؤلاء أقول: لقد خلقها الحق سبحانه لتكون شجرة طيبة في ظروف احتياجنا لها؛ لأنك حين تنظر إلى الكون ستجد أن مِزَاجه مُتنوِّع؛ ومُقوِّمات الحياة ليستْ هي الأكل والشرب فقط؛ بل هناك توازن بيئيّ قد صمّمه الحق تعالى، وهو الأعلم مِنّا جميعًا بما خلق؛ ولم يخلق إلا طَيّبًا.
وكل شيء في الكون له عطاء مستمر يُشع في الجو، والمَثَل هو تساقط أوراق الشجر التي تُعيد الخِصْب مرة أخرى إلى الأرض. وكلها أمور يُبديها الحق سبحانه ولا يبتديها، أي: يُظهرها بعد أنْ كانت موجودة أَزلًا ومَخفية عَنَّا.
وهو جَلَّ وعلاَ يرفع قومًا ويَخفِض قومًا؛ وهو القائل عن ذاته: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].
وكلُّنا نعلم أن اليوم عند منطقة ما يبدأ في توقيت مُعيّن، وينتهي في توقيت مُعين؛ وتختلف المناطق الجغرافية وتختلف معها بدايات أيِّ يوم من منطقة إلى أخرى؛ فبعد لحظة من بداية يومك يبدأ يوم آخر في منطقة أخرى؛ وهكذا تتعدد الأيام وبدايات النهار والليل عند مختلف البشر والمجتمعات.
ولذلك فحين نسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها».